916 سيدي جابر
ما حدث حوالي الساعة 14:00 في قطار 516 علىٰ رصيف محطة سيدي جابر يوم 18 نوفمبر كان في نظري دالا علىٰ حال مصر.
علىٰ غبار التجديدات التي لم تتم بعد المتناثر علىٰ الأرصفة وقفت مع كثيرين غيري، كلٌ ينتظر قطاره.
قطارات الضواحي و القرىٰ، أبو قير و ما شابهه، تتوقف في المحطة لثوان كل بضع دقائق ثم تتركني أفكّر كيف كانت حياتي ستصبح لو كان علي ركوب مثل هذا القطار يوميا إلىٰ مدرستي و منها، مثل الألوف من هؤلاء الفتية و الفتيات.. كهل يمشي بتؤدة بعد أن نزل من عربة قطار رآها مزدحمة أكثر من طاقته علىٰ الاحتمال؛ ينتظر التالي.
التباين بين المطموح إليه بالتجديدات في المحطة و بين حالة القطارات كذلك كان دالا: المحطة التي كانت رايقة علىٰ طراز معماري بسيط مفتوحة علىٰ السماء تحوّلت إلىٰ النسخة المصرية من محطة عصرية مُطوّرة: سُقِفت بدور علوي صُمّم ليضم محال تجارية و مقاه علىٰ ردهات بأبواب زجاجية ذوات أطر معدنية، و كُسيت جدرانها بالرخام، و وضِعت فيها سلالم متحركة سد أحدها نصف المدخل القديم للمحطة إلىٰ الرصيف البحري. في مكاتب الموظفين تكدّست معدات حاسوبية جديدة، شاشات و طابعات لا تزال في صناديقها. أقارن بينها و بين التي يعملون عليها في شباك التذاكر؛ تحديثة جديدة، جراحة تجميل لجسم متداع. تذكرة الدرجة الثانية المكيفة قيمتها 35 جنيها.
بعد الساعة الثانية بدقائق وصل القطار المباشر المتجه إلىٰ القاهرة. بينما القطار يدخل المحطة أسمع هتافا أعرف وقعه جيدا و أميّز بعض كلماته، هتاف طلاب جامعيين ينددون بحادثة قطار منفلوط الواقعة قبل يوم و يطالبون محاسبة المسؤولين. لا أرىٰ المسيرة علىٰ الرصيف المقابل إلا لمحا أقدّر منه عددهم بعشرات لأن مرور القطار يحول بيننا، لكن الصوت لا يزال يصلني.
فور توقف القطار أنتبه إلىٰ أني علىٰ الرصيف الخطأ متصورا أنه لن يقف كثيرا، فأهرول إلىٰ الرصيف الآخر. أصعد إلىٰ العربة الخامسة و أبحث عن المقعد رقم 16 و أجلس. المسافرون حولي من الطبقة الوسطىٰ بفئاتهم. أتأهب للغفو. من آن لآخر تُسمع مكالمة تليفونية يُبلغ فيها أحدهم محادثه بقرب انطلاق القطار، و دعابة عن ركوب القطارات غير مضمون العواقب هذه الأيام، تنتهي بتمني السلامة و الدعاء بستر الله.
يندفع قادم من عربة مجاورة يظهر أن التكييف مش شغّال
. في لحظات يعلو التذمر، و تبدأ مشاورات التصرف. رجل يبدو أنه محام يهدد بأنه - مفترضا تضامننا - لن يسمح بانطلاق القطار علىٰ هذا الحال، حتىٰ لو نزلنا لنقف أمامه علىٰ القضبان، فيلقىٰ كلامه استحسان البعض. الجالسة أمامي تتذمر بلا انقطاع من تعطيل الحال و تنخرط في تبادل الشكوىٰ مع الجالس إلىٰ جوارها الذي ألمحه عند التفاتها عنه يرمقها بنظرات تفحّص متحفّظ، يقترح آخر أن نكتب شكوىٰ نودعها في إدارة المحطة، قبل أن يقترح المحامي تشكيل وفد لمحادثة رئيس القطار و عرض مطالب تتضمن رد قيمة التذكرة أو قيمة التكييف، و يبين لنا حبير بأننا لن نرىٰ وجه مسؤول واحد حتىٰ ينطلق القطار و يفوت أوان الشكوىٰ.
من ثنيّات النقاش و اقتراحات الحلول راكب آخر يخبر العربة بأن القطار لن يغادر المحطة لأن المتظاهرين قابعون علىٰ القضبان أمامه احتجاجا. يتحول الموقف دراميا: يعلو التذمر الجارف من تداعي حال البلد كلها فتتطاير الشكوىٰ من كل صوب و من كل شيء في البلد. ينال المتظاهرين و الثورة نصيبا وافرا من التذمر و اللوم و السباب، كل راكب و ضميره، فأسمع ضمن ما قيل "شوية عيال فاضيين" و لا مش فاضيين...
و عن بعد شوية شيوعيين معطلين البلد...
تنهض الجالسة أمامي خارجة من القطار بسرعة و قد فاض بها الكيل متوعدة بأنها سترجع التذكرة غصبا عنهم
و ...الوزير استقال...إيه المطلوب ثاني!... و ...الحكومة... و تركب سيارة أجرة لترجع إلىٰ أبنائها في الموعد، و أثناء اندفاعها تكون قد طال تذمرها رئيس الوزراء الذي يُبدي أبناء غزّة التي تتحكم في مصر علىٰ أبناء مصر المنكوبين، قبل أن يضع أحمر الشعر المندفع عبر ردهة العربة إلىٰ المخرج واسطة عقد التذمر بعبارة يطلقها و هو يحفّ مقعدي في طريقه إلىٰ الخارج
ما هم قبضوا علىٰ عامل المزلقان...مرسي دا أزفت واحد أصلا
مجددا قوة النقاشات الجانبية التي تزخر بها العربة و مغيرا في اتجاه كل منها بمقدار. عن بعد أسمع
لا يقطع موجات التذمر و النقاش المتتالية غير صياح أحدهم أن الشرطة تضرب المتظاهرين لتزيحهم عن السكة، و قبل أن ينهي عبارته يتحرك القطار عنوة مستغلا ثغرة فتحتها الشرطة فيندفع بسرعة مغادرا الرصيف قبل أن يتوقف في منطقة المناورة مجددا، بعد بضع اهتزازات و مراوحة في المكان، يعاود الانطلاق لبضعة أمتار قبل أن نسمع أصوات ارتطام حجارة. ينبطح بعض الركاب، و أنظر عبر النافذة لأرىٰ صبيا يحمل حجرا يمر به القطار سريعا.
مع تحرّك القطار عاد بعض الحديث إلىٰ مسألة التكييف العطلان. قال المحامي ذو المركز القيادي في انتفاضة التكييف: إذا جاء المحصل لا تخرجوا تذاكركم
..فأضاف آخر لو أعطاه واحد تذكرته فسنخسر كلنا موقفنا
.
دلف رئيس القطار خَلفَه فنيّ، فانبرىٰ لهم الجميع مبدين التذمر و الضيق و الشكوىٰ، فحاول الرجل تهدئتيهم، إلا أن شيخا ملتحيا ريفي السَّمت بالغ في الصراخ و الاحتجاج، فعندما احتد عليه مساعد رئيس القطار مطالبا إياه بالجلوس ريثمات يُصلح التكييف، فتمتم الشيخ غاضبا ثم عاود الصراخ محوّلا الشكوىٰ إلىٰ "بتوع الثورة ال عاوزين يعملوا ثورجية و بيعطلوا القطار و يقذفوه بالحجارة" قبل أن يعاود الجلوس.
مكالمات الركاب مع ذويهم و منتظري وصولهم تغيّر حشوها من حادثة أسيوط إلىٰ أحداث اليوم: رموا حجارة و كسّروا القطار علينا
تكررت عبارات مشابهة في مكالمات أحدهم مرات عديدة فيما بعد خلال الرحلة حتىٰ ظننته بلّغ كل أهله و عشيرته.
ما حدث بعد ذلك في الرحلة أغلبه لا يهم.