النعناع في الأوتوبيسات
تركب المترو أو تصعد الحافلة فتجد أحد الركاب قد أمسك مصحف جيب صغير و انهمك في القراءة، غالبا في صمت و أحيانا بصوت يعلو أو ينخفض حسب جرأة الشخص و الجو السائد…و عادة ما يكون الانطباع الذي يوحي به منظر القارئ هو أنه يؤدي واجبا يجب الفراغ منه في أسرع وقت.
منظر لا ينفك يذكرني باليهود عند حائط المبكى.
في رأيه أنه يستثمر الدقائق التي يمضيها في الحافلة في ما يجلب عليه حسنات قد ترفع من مقامه وسط أصحاب الأملاك في الآخرة.
صحيح أن الله رحيم يقبل دعوة الداعي و لايرد أحدا، لكن هذا لا يقلل من انتهازية هذا المؤمن، في نظري، لأنه يقدم إلى الخالق الوقت الذي لا يستطيع استغلاله في أي شيء آخر، و هذا يجعلها تقدمة غثة، و قربانا أقل مقاما.
يقدم قربانه على عَجَلٍ مثل من يلقي قربانه من نافذة المعبد و هو في طريقه إلى السوق، لأنه لا يريد أن يضيع وقته في خشوع و طقوس و تفرغ و تصفية للعقل و الروح و ما إلى ذلك من أعمال تستلزم وقتا طويلا و لا تجدي في المدى القريب.
المؤمن المصلحجي!
أين العيب؟ في العابد أم في العبادة؟ أم في كليهما؟ أم في الزمان؟
تدخل المحل أو السوبرماركت فتجد السماعات الداخلية تذيع قرآنا يقرؤه أخنف!
في السوق! حيث الضوضاء و اللغو و الفصال و النقاش و اسكت يا ولد
و بس يا بنت
و دي بكام؟
و دا انت حرامي..دا أنا جايبها بجنيه
و لا يختلف الوضع كثيرا في المواصلات، ما بين سباب ركاب و نداء باعة، و لغو شباب و عدم اكتراث الأغلبية إلا من باب الخجل و تخليص النفس من الحرج، حيث الأكثر إظهارا للتدين يكسر عين الأقل.
في صفحة الفتاوى في الصحيفة تجد السؤال: ما حكم قراءة القرآن في المواصلات العامة؟
و تجد الإجابة: إذا كان القارئ متوضئا فلا بأس
.
أحيانا أشعر أني أود أن أشد على يد سائق تاكسي أو ميكروباص لأن شريط القرآن الذي يدور في عربته ينطلق منه صوت مصري - أو سوري أو مالطي - المهم أنه مريح لا عويل و لا تشنج فيه.
لا يمكنني إلا أن أحترم العقائد التي تُكرِّه ذكر اسم الخالق في كل مناسبة…ليس بالضرورة كتحريم اليهود الرهيب، و المضحك في آن، لذكر اسم الإله، حتى أثناء قراءة التوراة و استبداله بكلمات أخرى حتى لم يعد أحد يعرف - بعد أجيال طويلة - كيف كان ينطق اسم الإله أصلا؛ و هذه حقيقة و ليست مبالغة.
لكن يعجبني مثلا رفض المسيحيين المصريين الحلف…اطلب من مسيحي أن يحلف بالله فلن تجد عنده أكثر من صدقني
.
تكرار الكلمة يبتذلها.
أو كراهية الدروز أو النصيرية الصلاة علنا، و تفضيلهم الصلاة الفردية، و مثلهم البهائيين.
الصلاة مثل ممارسة الجنس، علاقة خاصة بين اثنين إذا خرجت عنهما أصبحت رياءً، و إذا كانت لديك القدرة أن تفعلها في مكبرات الصوت و وسط الصخب فأنت حتما صاحب قدرات خاصة…ألف مبروك فرحت لك جدا.
كنت مرة كتبت أن الصلاة في الصحراء أو في الريف أو أي مكان بريّ، تحت النجوم في خشوع و صمت يتحدى الحفيف النادر لنباتات الصحراء الصابرة هو تجربة روحية تغير من يمر بها - و هو واع لها - إلى الأبد. لكني لن أحاول أن أشرح هذا لمؤمني الإنتاج الكبير سكان المدن المليونية.
تجربة لن يطيق بعدها أن يستمع إلى دعوات الشماتة و طلب الذل للأعداء و النواح. و أنا لا أتحدث هنا عن الطقوس الموسمية الجماعية في المناسبات.
لكن يبدو أن الرجل الذي كان يجلس خلفي في منذ يومين في الحافلة لا يعتقد ذلك، لأنه بمجرد أن دخل المينيباص الذي كانت يقلنا إلى معمة ميدان العتبة، بدأت يدعو و يتمتم أن يفك الله زحام إشارة المرور…لمدة طويلة…و بإلحاح فكها يا ربّ…أنا بادعيلك أهه
المؤمن الجزِع!
ممكن أن نفترض أنه كان وراءه موعد هام ستتغير بسببه حياته أو أنه يسعى لرؤية والد مريض أو زوجة تضع أو ابنا في ورطة، لكن لسبب ما شعرت أن الرجل الشعبي متوسط العمر الذي كان يرتدي جلابية لم يكن لديه شيء من هذا يقلقه في هذا الوقت من نهاية النهار، و أنه ربما اعتاد هذا و أن هذه هي فكرته عن التواصل مع الخالق، و عندما تنجلى العقدة المرورية و تنطلق الحافلة في طريقها سيشعر فعلا أنه رجل مجاب الدعوة.
وددت لو أصرخ في وجهه أن الإله غالبا لا يهتم كثيرا بوقوف المينيباص في إشارة مرور في ميدان العتبة في القاهرة على هذا الكوكب في هذه الذراع من المجرة في هذا الكون الفسيح، تماما مثلما أنه لا يهتم لطول ذقنه أو ثوبه، و أن أخبره أيضا بمفاجأة: أن عرش الرحمن لا يهتز للممارسات الجنسية للمثليين، لأنه لو كان هذا هو الحال فسيصعب عليه المحافظة على وضعه فوق مرجيحة الروديو هذه طويلا.
كنت متأخرا عن موعدي نصف الساعة و كانت أعصابي بدأت تنفذ
بالمناسبة، عندما يحاول بائع في الأتوبيسات أن يلقي في حجري بباكو نعناع أو قلم بسبع ألوان أو كتاب أدعية فأنني أزغر له زغرة تعرِّفه أن لا يفعل، و إذا فلتت الزغرة لأن البائع من النوع الذي كان التطور الطبيعي كفيلا بتقليل عدد أفراد نوعه في البرية و فعلها فإني ألقي بها في وجهه.
صحيح، فكرتني بقراءة الفاتحة قبل الماتش و الركوع قبل الركلات الترجيحية.
و أخيرا؛ توضيح يُلِّح عليّ: أن تشبيه الصلاة بالجنس، رغم أني قصدته في معنى مختلف، إلا أنه حقيقي عند الشعوب البدائية بشكل ما فيما يتعلق بعقائد الخصب و التجدد و حتى في الصوفية اليهودية حيث الصلاة هي إعادة لفعل الإتحاد بين يهوه و يهوديت التي هي روح الشعب اليهودي. نقلا عن عبدالوهاب المسيري
كنت كتبت شيئا مشابها. يعني ساذجة و غير بليغة لكن المعنى نفسه تقريبا.
خيالاتك عن الصلاة الجماعية راودتني و أمسكت نفسي بالعافية عن كتابتها.