كل يوم يذهلني مدىٰ تغلل عقلية حماية الملكية الفكرية في مسائل ليست لها أي علاقة بها و لا تنطبق عليها، و ذيوع ما يكاد يكون خطابا رسميا تردده وسائل الإعلام علىٰ ألسنة مسؤولي الدولة و علماء و باحثين و غيرهم. إذ أصبحت "حماية الملكية الفكرية" هي وسيلة كل من يخشىٰ علىٰ شيء يريد حمايته من أي خطر، حقيقي أو مُتخيّل، سواء بحسن نية، أو كمطلب فئوي يضمن استمرار و زيادة أهمية الشخص و الفئة التي ينتمي إليها في مجتمع يُعاد تشكيله حول تكديس موارد - كانت عامة و قومية - وراء أسوار ملكيات خاصة.
منذ فترة أحاول إقناع نفسي أن هؤلاء المتحدثين الذين يستضيفهم الراديو لا يقصدون فعلا مطالبتهم بحماية أشكال و تصميمات و موتيفات الفن المصري القديم بآليات حماية الملكية الفكرية، و لا المخطوطات، و لا النباتات الطبية، و أقول لنفسي أن هذا الشخص حتما لا يعرف ما يقوله، و يكفي أن نستفيد منه في مجال تخصصه الذي يفهم فيه و نطنّش علىٰ الباقي.
لكن تواتر تكرار تلك اﻷفكار و توزعها علىٰ مجالات عديدة يجعلني أفكر أن هذه الدعاوىٰ تجد لها صدىٰ واسعا بين مسؤولين حكوميين و علماء و باحثين، و آثاريين و مديري متاحف و أرشيفات وطنية و محققي مخطوطات بل و علماء أحياء.
في الماضي، كانت المتاحف تلجأ إلىٰ تحايلات لضمان احتكارها الصورَ و المستنسخات من مقتنياتها، التي تبني عليها منتجات تُباع لزوّارها، و قد تتقاضىٰ رسوما إضافية ممن يريد تصويرها تصويرا احترافيا أو من يريد أن ينتج فِلما، و ربما عضّد تلك الممارسات اعتقاد لدىٰ متاحف عديدة حول العالم بأن حماية المقتنيات و إطالة عمرها تستوجب منع التصوير، و المفروض أن المنع يقتصر علىٰ منع الفلاش لكنه يمتد إلىٰ حظر كامل بسبب صعوبة التحكم في الزوار و المشكلات التي تنتج عن احتكاك موظفي المتاحف بهم، بسبب حسن نية الزوار أو تحايلهم. و هو اعتقاد ربما كان صحيحا و لم يكن يضر كثيرا، فالمتاحف مفتوحة، و صور المقتنيات و مستنسخاتها متاحة للشراء و البيع، و العوائد تستثمر في المؤسسات المتحفية.
لكن هذا الخطاب الجديد مختلف. من أمثلة ما أسمعه من تلك الدعاوىٰ:
موظف آثاري يُخاطَب باعتباره من كبار الآثاريين في مصر و أحد روّاد نهضة حماية الآثار و البحوث الأثرية يطالب بتسجيل الأهرام علامة تجارية و إلزام كل من يبني مجسما لها بدفع عوائد ملكية فكرية، لمنع تقليدها تقليدا سيئا يشوّه حضارة المصريين و يخدع من لم تتح لهم رؤية الأصل، و لحفظ الحقوق المادية للمصريين أصحاب هذه الأعمال، منتجوها الأصليون
، و الرجل يضرب لذلك مثلا بالفنادق البذخة في لاس فيجاس الأمريكية، المبنية علىٰ طراز قبيح يُفترض أنه في نظر زوّارها المغفلين يحاكي الطرز المصرية القديمة.
موظف آخر يتحدّث عن وجوب حماية الآثار المصرية كذلك، فتسأله المذيعة هل يتوجب مثلا علىٰ من يريد استخدام قناع توت عنخ آمون في شعار أن يدفع المقابل، فيجيبها بأنه يوجد كوبيرَيت و كوبيرُنج، فإن كانت الشركة كبيرة وجب الدفع
! ثم تُسهب هي في بيان كيف أن هذا النتاج الحضاري يخص المصريين و يجب عليهم أن يستفيدوا هُم منه. في عقلية جباية ترممية بحتة.
باحثة في مجال الصَّيدلة تُطالب بحماية الأنواع الطبيعية المصرية المتوطنة في مصر لمنع الآخرين من استغلالها! تطرأ في بالي الملوخية و الضجة التي أثيرت منذ سنوات حول استغلال اليابانيين تجاريا لها بصنع ضرب من الشاي.
مُحقِّق مخطوطات يخلط في كلامه و منهجيته بين تحقيق المخطوطات و بين ما يسميه تنقيح التُّراث - و هي ممارسة شائعة في هذا المجال إلىٰ حدّ مخيف - يشكو أن الأعمال المحققة تُسرق و يعاد طبعها، و يدعو إلىٰ حماية أصولها.
الرجل السابق ذاته يلقي بنا في معرض كلامه في خضم مأساة أخرىٰ تتعدد جوانبها: أرشيفاتنا الوطنية التي تُدار باعتبارها مغارة علي بابا: فعندما تسأله المذيعة عن صعوبات الحصول علىٰ مستنسخات المخطوطات من اﻷرشيفات التي تتوزع عليها، يجيبها بأن مديري تلك الأرشيفات معذورون لأن بعض الناس يسعون للحصول علىٰ مستنسخات لبيعها و التكسب منها
لذا وجب التحقق من نيّتهم بطريق إبراز الخطابات من الجهات البحثية و بطاقات العضويات و ما شابه.
أعلم جيدا، أن النفاذ إلىٰ أرشيف مصري مغامرة كبرىٰ لأن العقليات التي تديرها تفضل أن تتلف كل محتوياتها عن أن يطلّع عليها إنسان. أعلم ذلك لأني سمعت عشرات المغامرات من معارف لي من باحثين و أكاديميين، هذا غير عقلية التشكك البوليسي التي تُفرض عليهم أو يتطوع بها المديرون.
و مؤخرا، وزير التربية يتشاكل مع ناشري الكتب المدرسية الخارجية التي اعتمد عليها طلاب مصر لأجيال مضت دفعتهم إليها رداءة كتب وزارة التربية محتواها و تصميمها، و حجته في المنع أن منتجي تلك الكتب يربحون من مصنفات مبنية علىٰ ما تملكه وزارة التربية و التعليم.
و ليس للوزارة أن تربح و لا دَورُ الحكومة أن تحمي مصنفا أنتج بمال عام، و لا أن تتكسب من هدف قومي كالتعليم، بل واجبها أن تنتج كتبا جيدة لا يحتاج التلاميذ غيرها.
باحثة في مجال الأحياء تطالب بحماية جينوم الإنسان المصري لحمايته من استغلال الأمم الأخرىٰ له تجاريا، أو الأمم المعادية التي تريد بنا الشرّ.
المذيعون يكررون هذا الكلام، بل يطرحونه علىٰ الضيوف الذين لم يتطرقوا إليه و الضيوف يقعون في فخ الموافقة و المزايدة فيأتي كل منهم بمثال من مجال تخصصه أسخف مما سبقوه.
و آخرون عديدون يخلطون بين حماية التراث بمعنىٰ الحفاظ علىٰ وجوده، مادة أو محتوىٰ، و بين وضعه في خزائن قانونية و إدارية لمنع إعادة إنتاجه أو تأويله لغير فئة محددة، و أحيانا بدعوىٰ حماية فحواه. أي تمتد الحماية عندهم من حماية حق الاستغلال الاقتصادي الذي هو و حسب و لاشيء غيره موضوع الملكية الفكرية، إلىٰ حماية الأفكار نفسها من التعديل و التطوير في عقول آخرين.
أمهاويس اختلطت عليهم الأمور و المسببات و الدوافع؟
أم يقولون كلاما يعرفون تهافته لأنهم يتكلمون في الراديو، و هم لا يجرؤون علىٰ ترديده في محافل يكون فيها من يرد عليهم؟
أم وقعوا ضحية خطاب نشأ و تطوّر بمعزل عن النّقد في أروقة دولة تسعىٰ لاهثة لإيجاد مكان لها في نظام اقتصاد عالمي فهرولت وراء اتفاقات تسعىٰ الدُّول الكبرىٰ لفرضها و هي ليست في صالحها و روّجت لمفاهيم لا تحمي سوىٰ السابقين في التقدُّم؟
لا أدري من أين أبدأ! كم الضلالات كبير، و التشابك الحاصل كبير بين مسائل نحتاج إلىٰ فك اشتباكها.
اقرأ كذلك مقالة عبدالودود العمراني الملكية الفكرية: كلمة الحق التي يُراد بها باطل
.